عبد الله محمد العسكر
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن ، تؤثر فيها المؤثّرات ، وتعصف بها الأهواء والأدواء ، فتجنح لها وتنقاد إليها ، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ
كما قال تعالى : ] إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي [ [يوسف : 53] ، ولذا ؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى
والخوف من الله ، ويأطرها على الحق أطراً . قال لقمان الحكيم لابنه : (يا بنيّ :
إن الإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنفسَ حرون ؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن
الطريق ، وإن فتر قائدها حرنت ، فإذا اجتمعا استقامت . إنّ النفس إذا أُطمعت
طمعت ، وإذا فوّضْت إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ، وإذا تركت
الأمر إليها فسدت ؛ فاحذر نفسك ، واتهمها على دينك ، وأنزلها منزلة من لا حاجة
له فيها ، ولا بُدّ له منها . وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق ، وإنّ
الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق : فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه ،
وأن يجلس معها جلسات طِوالاً ؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت : ماذا أودع
فيها ، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك
وتعالى .
أولاً : معنى المحاسبة :
قال الماوردي في معنى المحاسبة : (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من
أفعال نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله :
(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه ؛
لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله : (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل
الفعل والترك من العقد بالضمير ، أو الفعل بالجارحة ؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما
يترك ، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه ، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض ، وسارع إلى
أدائه) [4] .
ثانياً : أهمية محاسبة النفس :
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي :
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن ثمّ ؛ إعطاؤها
مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس . ولا شك أن معرفة العبد لقدر
نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم ، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر . قال
أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .
2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه ؛ وذلك عندما
يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله ، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل
مشين وقبيح ؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ،
ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر
فلا يُكفر .
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى . قال تعالى :
] قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [ [الشمس : 9 ، 10] ، وقال مالك
بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألستِ صاحبة كذا ؟ ثم
ذمّها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس ، وتنمّي في الذات الشعور
بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى
الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند
الموت : (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها : (كيف قلتُ ؟ ) فأعادت
عليه ما قال ، فقال : (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي : (فانظر كيف
نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .
ثالثاً : فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك :
قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ [الحشر : 18] ، قال صاحب الظّلال : (وهو
تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه ، ومجرّد خطوره على القلب يفتح
أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها ،
وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة .
وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير
مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد ؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً
ورصيده من البرّ ضئيلاً ؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكفّ عن
النظر والتقليب) [9] .
وقال تعالى : ] وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [ [القيامة : 2] يقول الفرّاء : (ليس
من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ
ازددتِ ، وإن عملت شرّاً قالت : (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير
هذه الآية : (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه : ماذا أردتُ بكلمتي ؟ ماذا أردتُ
بأكلتي ؟ ماذا أردت بشربتي ؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه) [11] .
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة
والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه : ] إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ [ . [الأعراف : 201] .
قال الفاروق عمر رضي الله عنه : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها
قبل أن توزنوا ، وتزيّنوا للعرض الأكبر ] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [
[ الحاقة : 18]) [12] .
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله : (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله ،
وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنّما شق الحساب يوم
القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [13] . ويقول ميمون بن مهران : (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه) [14] .
ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول : (أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة ، والاسترسال ، وتسهيل الأمور وتمشيتُها ؛ فإن
هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذا حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ،
ويمشّي الحال ، ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا
فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها) [15] .
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف
أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول : (فَعَرف أربابُ البصائر من
جملة العباد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون
بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات ، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا
لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتُها
في الخطرات واللحظات . فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه ، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه ، وحسُن منقلبُه ومآبُه . ومن لم يحاسب نفسَه دامت
حسراتُه ، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه ، وقادته إلى الخزي والمقت
سيئاتُه) [16] .
وقال الحسن رحمه الله : (اقرعوا هذه الأنفس ؛ فإنها طُلَعَة [17] ، وإنها
تنازع إلى شرّ غاية ، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً ، فتصبّروا
وتشدّدوا ؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا
يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [18] .
رابعاً : كيفية المحاسبة :
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية
محاسبة النفس ؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا ؛ لكنّ هناك
أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع .
والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة
والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ
العزيمة والجدّ . قال الغزالي : (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل
النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق ، فينبغي أن يكون له في آخر
النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل
التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على
الدنيا ، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف
لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ؟ ! ما هذه
المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) [19] ، ثم بيّن
رحمه الله أن المحاسبة تكون على نوعين :
النوع الأول : محاسبة قبل العمل ، وهي : أن يقف عند أوّل همّه وإرادته ،
ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه . قال الدكتور عمر الأشقر :
(ينظر في همّه وقصده ؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل
عليه دفعُها ... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس ،
والوسوسة تصير إرادة ، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً . قال الحسن : كان
أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت ؛ فإن كانت لله أمضاها ، وإن كانت لغيره
توقّف) [20] . وشرح بعضهم قول الحسن فقال : (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من
الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر : هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور
عليه ؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه ، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة
أخرى ونظر : هل فِعلُه خير له من تركه ، أم تركُه خير له من فعلِه ؟ فإن كان
الخير في تَرْكه تَرَكَه ، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر : هل الباعث عليه
إرادة وجه الله عز وجل وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟ فإن كان
الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه ؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ
عليها العمل لغير الله ؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى
يصير أثقل شيء عليها ، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر : هل هو مُعَانٌ
عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم
يكن له أعوان أمسك عنه ، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة
حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ بإذن
الله ) [21] .
النوع الثاني : المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة :
محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم
سؤاله نفسه : هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما
جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك ؟
فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة ، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة .
ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها : قال ابن القيم في ذلك : (وبداية
المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك ؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت ،
وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب . وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب
ربّ والعبدَ عبد ، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ
الربّ بالكمال والإفضال ، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل ... فإذا
قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها : [انها] الجاهلةُ
الظالمةُ ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً . ولولا إرشاده
وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة ؛ فهناك تقول حقاً : أبوء بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي) [22] .
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه
ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية ، فيتدارك نفسه
بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات . قال سبحانه :
]إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [ [هود : 114] . فالبدارَ البدارَ
قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها . وتذكّر
الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد
والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه : (لو أنّه فُتح من
جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من
حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها .
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على
ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا ؟ ! نسأل الله
اللطف والتخفيف .
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله ، أو على أمرٍ مباح ، ما
سبب فعلِه له ؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة : لِمَ فعلتُ هذا الأمر ؟ أليس الخير في
تركه ؟ وما الفائدة التي جنيتها منه ؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي ؟ ونحو ذلك
من الأسئلة التي على هذه الشاكلة .
وأمّا المباح فينظر : هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي ؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة ؛ فيكون فعلي له
مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك
المباح ، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها ، أو كان
له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة ؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير
العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور .
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله : (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول : واللهِ إنّي لأشتهيك ، وإنّك لمن حاجتي ؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك ،
هيهات ! ! حيل بيني وبينك . ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه
فيقول : ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ واللهِ
ما لي عذرٌ بها ، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله .
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في
الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ
عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك
كلّه) [24] .
وبالجملة ؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس ، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني .
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه
الله حيث يقول : (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها : يا نفس ما أعظم جهلك ،
تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً ! ! أما تتدبرين قوله
تعالى : ] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... [ [الأنبياء : 1 3] ويحك
يانفس !إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك !
وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك ! ويحك يا نفس ! !
لو كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ؟ ! ! ويحك
يانفس ! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا ، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ
لغيرك ، ولا تضيّعي أوقاتك ؛ فالأنفاس معدودة ، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى
بعضُك . ويحك يا نفس ! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ، ثم
ذهبوا وخلوا ؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال ، وفي دار
حزن ونصب لدار نعيم وخلود) [25] .
خامساً : نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم :
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة
لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً ؛ لأن أولئك
القوم ارتبطت قلوبهم بالله ؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء ، وما إن
يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه ، ومعاقبة نفسه على
ذلك ؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير . ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى
عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب ، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية
جادة قويّة .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار : عمر ! !
أمير المؤمنين ! ! بخٍ بخٍ ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له : أَتَتْركون الخليفة حين يكون
فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه ؟ وضربه بالدرّة ، فانصرف الرجل
حزيناً ، فتذكّر عمر أنه ظلمه ، فدعا به وأعطاه الدرّة ، وقال له : (اضربني كما
ضربتُك) فأبى الرجل وقال : تركت حقي لله ولك . فقال عمر : إما أن تتركه لله
فقط ، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل : تركته لله . فانصرف عمر إلى منزله
فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : (يا ابن الخطاب : كنتَ وضيعاً فرفعك الله ،
وضالاً فهداك الله ، وضعيفاً فأعزّك الله ، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على
دفع الظلم فظلمتَه ؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه ؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق
الناس عليه) [27] .
وقال إبراهيم التيمي : (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من
أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من
صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أيّ شيء تريدين ؟ فقالت : أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً ! قلتُ : فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال : كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل ، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه :
يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ
كذا ؟ ) [29] .
ونُقِل عن توبة بن الصّمة : (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو
ابن ستين سنة ، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ
وقال : يا ويلتى ! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب ؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت ! ! فسمعوا قائلاً يقول : يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة : (فهكذا ينبغي أن
يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس ، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة
. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من
عمره ، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي ؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ] أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ ... [ [المجادلة : 6] [31] .
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟
ثم أقبل على نفسه ، فقال : تسألين عمّا لا يَعْنيكِ ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة ،
فصامها) [32] [33] .
وقال عبد الله بن قيس : كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو ، فَصِيحَ في الناس
فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح ، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه
ويقول : أيْ نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُك
ورجعت ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُكِ ورجعت !
واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ . فقلت : لأرمقنّكَ اليوم ، فرمقته
فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم ، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا
(أي هربوا) فكان في موضعه ، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل ؛ فواللهِ ما زال
ذلك به حتى رأيتُه صريعاً ، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) [34] .
وأخيراً :
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في
(مدارج السالكين) ؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة : أن يكون المرء صادقاً في
محاسبته لنفسه . وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس : الاستنارة بنور الحكمة ؛ وسوء الظنّ بالنفس ، وتمييز النعمة من الفتنة .
فأمّا نور الحكمة ؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل ، وكلّما كان
حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ .
وأما سوء الظن بالنفس ؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ
والعيوب .
وأما تمييز النّعمة من الفتنة ؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر ، مفتونٍ
بثناء الجهّال عليه ، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه ! [35] .
حكى الذهبي عن المرّوذي قال : قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) : قدم
رجلٌ من طرسوس فقال : كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم
بالدعاء لأبي عبد الله ، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله . وقد رُمي عنه
بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته [36] فذهب برأسه والدّرقة ! ! قال :
فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال : ليته لا يكون استدراجاً) [37].
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم .
________________________
(1) ذم الهوى لابن الجوزي (40) .
(2) أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم ، 8/ 3317] .
(3) مدارج السالكين ، 1/187 .
(4) التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97) .
(5) الزهد للإمام أحمد (196) .
(6) إغاثة اللهفان لابن القيم (79) .
(7) التربية الذاتية (98) .
( إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ، 4/587 .
(9) في ظلال القرآن ، لسيد قطب ، 6/3531 .
(10) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(11) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(12) الزهد للإمام أحمد (177) ، ومدارج السالكين 1/187 .
(13) حلية الأولياء لأبي نعيم ، 2/157 .
(14) الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501) .
(15) إغاثة اللهفان ، (82) .
(16) الإحياء ، 4/118 .
(17) قال في القاموس في مادة (طلع) : نفس طُلَعة : تكثر التطلّع إلى الشيء .
(18) حلية الأولياء 2/144 ، ذم الهوى لابن الجوزي (41) .
(19) الإحياء ، 4/588 .
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين ، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف) .
(21) إغاثة اللهفان (81) .
(22) مدارج السالكين 1/188 .
(23) الزهد للإمام أحمد (179) .
(24) حلية الأولياء 2/157 ، وذم الهوى (40) .
(25) الإحياء ، 4/605 .
(26) الزهد للإمام أحمد (171) .
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي ، 171 .
(28) الزهد للإمام أحمد ، 501 .
(29) الزهد للإمام أحمد ، 336 ، وذم الهوى ، 41 .
(30) الإحياء ، 4/589 .
(31) الإحياء ، 4/589 .
(32) حلية الأولياء ، 3/115 ، وذم الهوى ، 42 .
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام - ، وهو صيام يوم وإفطار يوم - البيان - .
(34) الإحياء ، 4/591 .
(35) مدارج السالكين ، 1/188 (بتصرّف) .
(36) الدّرَقَة : التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط ، 1/281) .
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210) .
موقع طريق الدعوة
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن ، تؤثر فيها المؤثّرات ، وتعصف بها الأهواء والأدواء ، فتجنح لها وتنقاد إليها ، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ
كما قال تعالى : ] إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي [ [يوسف : 53] ، ولذا ؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى
والخوف من الله ، ويأطرها على الحق أطراً . قال لقمان الحكيم لابنه : (يا بنيّ :
إن الإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنفسَ حرون ؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن
الطريق ، وإن فتر قائدها حرنت ، فإذا اجتمعا استقامت . إنّ النفس إذا أُطمعت
طمعت ، وإذا فوّضْت إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ، وإذا تركت
الأمر إليها فسدت ؛ فاحذر نفسك ، واتهمها على دينك ، وأنزلها منزلة من لا حاجة
له فيها ، ولا بُدّ له منها . وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق ، وإنّ
الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق : فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه ،
وأن يجلس معها جلسات طِوالاً ؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت : ماذا أودع
فيها ، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك
وتعالى .
أولاً : معنى المحاسبة :
قال الماوردي في معنى المحاسبة : (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من
أفعال نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله :
(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه ؛
لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله : (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل
الفعل والترك من العقد بالضمير ، أو الفعل بالجارحة ؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما
يترك ، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه ، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض ، وسارع إلى
أدائه) [4] .
ثانياً : أهمية محاسبة النفس :
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي :
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن ثمّ ؛ إعطاؤها
مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس . ولا شك أن معرفة العبد لقدر
نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم ، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر . قال
أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .
2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه ؛ وذلك عندما
يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله ، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل
مشين وقبيح ؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ،
ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر
فلا يُكفر .
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى . قال تعالى :
] قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [ [الشمس : 9 ، 10] ، وقال مالك
بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألستِ صاحبة كذا ؟ ثم
ذمّها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس ، وتنمّي في الذات الشعور
بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى
الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند
الموت : (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها : (كيف قلتُ ؟ ) فأعادت
عليه ما قال ، فقال : (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي : (فانظر كيف
نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .
ثالثاً : فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك :
قال الله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ [الحشر : 18] ، قال صاحب الظّلال : (وهو
تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه ، ومجرّد خطوره على القلب يفتح
أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها ،
وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة .
وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير
مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد ؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً
ورصيده من البرّ ضئيلاً ؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكفّ عن
النظر والتقليب) [9] .
وقال تعالى : ] وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [ [القيامة : 2] يقول الفرّاء : (ليس
من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ
ازددتِ ، وإن عملت شرّاً قالت : (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير
هذه الآية : (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه : ماذا أردتُ بكلمتي ؟ ماذا أردتُ
بأكلتي ؟ ماذا أردت بشربتي ؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه) [11] .
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة
والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه : ] إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ [ . [الأعراف : 201] .
قال الفاروق عمر رضي الله عنه : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها
قبل أن توزنوا ، وتزيّنوا للعرض الأكبر ] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [
[ الحاقة : 18]) [12] .
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله : (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله ،
وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنّما شق الحساب يوم
القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [13] . ويقول ميمون بن مهران : (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه) [14] .
ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول : (أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة ، والاسترسال ، وتسهيل الأمور وتمشيتُها ؛ فإن
هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذا حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ،
ويمشّي الحال ، ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا
فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها) [15] .
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف
أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول : (فَعَرف أربابُ البصائر من
جملة العباد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون
بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات ، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا
لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتُها
في الخطرات واللحظات . فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه ، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه ، وحسُن منقلبُه ومآبُه . ومن لم يحاسب نفسَه دامت
حسراتُه ، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه ، وقادته إلى الخزي والمقت
سيئاتُه) [16] .
وقال الحسن رحمه الله : (اقرعوا هذه الأنفس ؛ فإنها طُلَعَة [17] ، وإنها
تنازع إلى شرّ غاية ، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً ، فتصبّروا
وتشدّدوا ؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا
يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [18] .
رابعاً : كيفية المحاسبة :
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية
محاسبة النفس ؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا ؛ لكنّ هناك
أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع .
والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة
والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ
العزيمة والجدّ . قال الغزالي : (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل
النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق ، فينبغي أن يكون له في آخر
النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل
التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على
الدنيا ، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف
لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ؟ ! ما هذه
المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) [19] ، ثم بيّن
رحمه الله أن المحاسبة تكون على نوعين :
النوع الأول : محاسبة قبل العمل ، وهي : أن يقف عند أوّل همّه وإرادته ،
ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه . قال الدكتور عمر الأشقر :
(ينظر في همّه وقصده ؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل
عليه دفعُها ... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس ،
والوسوسة تصير إرادة ، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً . قال الحسن : كان
أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت ؛ فإن كانت لله أمضاها ، وإن كانت لغيره
توقّف) [20] . وشرح بعضهم قول الحسن فقال : (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من
الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر : هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور
عليه ؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه ، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة
أخرى ونظر : هل فِعلُه خير له من تركه ، أم تركُه خير له من فعلِه ؟ فإن كان
الخير في تَرْكه تَرَكَه ، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر : هل الباعث عليه
إرادة وجه الله عز وجل وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟ فإن كان
الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه ؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ
عليها العمل لغير الله ؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى
يصير أثقل شيء عليها ، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر : هل هو مُعَانٌ
عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم
يكن له أعوان أمسك عنه ، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة
حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ بإذن
الله ) [21] .
النوع الثاني : المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة :
محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم
سؤاله نفسه : هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما
جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك ؟
فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة ، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة .
ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها : قال ابن القيم في ذلك : (وبداية
المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك ؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت ،
وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب . وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب
ربّ والعبدَ عبد ، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ
الربّ بالكمال والإفضال ، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل ... فإذا
قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها : [انها] الجاهلةُ
الظالمةُ ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً . ولولا إرشاده
وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة ؛ فهناك تقول حقاً : أبوء بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي) [22] .
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه
ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية ، فيتدارك نفسه
بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات . قال سبحانه :
]إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [ [هود : 114] . فالبدارَ البدارَ
قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها . وتذكّر
الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد
والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه : (لو أنّه فُتح من
جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من
حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها .
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على
ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا ؟ ! نسأل الله
اللطف والتخفيف .
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله ، أو على أمرٍ مباح ، ما
سبب فعلِه له ؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة : لِمَ فعلتُ هذا الأمر ؟ أليس الخير في
تركه ؟ وما الفائدة التي جنيتها منه ؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي ؟ ونحو ذلك
من الأسئلة التي على هذه الشاكلة .
وأمّا المباح فينظر : هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي ؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة ؛ فيكون فعلي له
مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك
المباح ، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها ، أو كان
له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة ؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير
العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور .
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله : (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول : واللهِ إنّي لأشتهيك ، وإنّك لمن حاجتي ؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك ،
هيهات ! ! حيل بيني وبينك . ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه
فيقول : ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ واللهِ
ما لي عذرٌ بها ، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله .
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في
الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ
عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك
كلّه) [24] .
وبالجملة ؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس ، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني .
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه
الله حيث يقول : (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها : يا نفس ما أعظم جهلك ،
تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً ! ! أما تتدبرين قوله
تعالى : ] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... [ [الأنبياء : 1 3] ويحك
يانفس !إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك !
وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك ! ويحك يا نفس ! !
لو كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ؟ ! ! ويحك
يانفس ! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا ، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ
لغيرك ، ولا تضيّعي أوقاتك ؛ فالأنفاس معدودة ، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى
بعضُك . ويحك يا نفس ! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ، ثم
ذهبوا وخلوا ؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال ، وفي دار
حزن ونصب لدار نعيم وخلود) [25] .
خامساً : نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم :
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة
لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً ؛ لأن أولئك
القوم ارتبطت قلوبهم بالله ؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء ، وما إن
يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه ، ومعاقبة نفسه على
ذلك ؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير . ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى
عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب ، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية
جادة قويّة .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار : عمر ! !
أمير المؤمنين ! ! بخٍ بخٍ ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له : أَتَتْركون الخليفة حين يكون
فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه ؟ وضربه بالدرّة ، فانصرف الرجل
حزيناً ، فتذكّر عمر أنه ظلمه ، فدعا به وأعطاه الدرّة ، وقال له : (اضربني كما
ضربتُك) فأبى الرجل وقال : تركت حقي لله ولك . فقال عمر : إما أن تتركه لله
فقط ، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل : تركته لله . فانصرف عمر إلى منزله
فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : (يا ابن الخطاب : كنتَ وضيعاً فرفعك الله ،
وضالاً فهداك الله ، وضعيفاً فأعزّك الله ، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على
دفع الظلم فظلمتَه ؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه ؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق
الناس عليه) [27] .
وقال إبراهيم التيمي : (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من
أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من
صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أيّ شيء تريدين ؟ فقالت : أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً ! قلتُ : فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال : كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل ، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه :
يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ
كذا ؟ ) [29] .
ونُقِل عن توبة بن الصّمة : (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو
ابن ستين سنة ، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ
وقال : يا ويلتى ! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب ؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت ! ! فسمعوا قائلاً يقول : يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة : (فهكذا ينبغي أن
يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس ، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة
. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من
عمره ، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي ؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ] أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ ... [ [المجادلة : 6] [31] .
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟
ثم أقبل على نفسه ، فقال : تسألين عمّا لا يَعْنيكِ ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة ،
فصامها) [32] [33] .
وقال عبد الله بن قيس : كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو ، فَصِيحَ في الناس
فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح ، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه
ويقول : أيْ نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُك
ورجعت ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُكِ ورجعت !
واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ . فقلت : لأرمقنّكَ اليوم ، فرمقته
فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم ، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا
(أي هربوا) فكان في موضعه ، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل ؛ فواللهِ ما زال
ذلك به حتى رأيتُه صريعاً ، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) [34] .
وأخيراً :
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في
(مدارج السالكين) ؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة : أن يكون المرء صادقاً في
محاسبته لنفسه . وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس : الاستنارة بنور الحكمة ؛ وسوء الظنّ بالنفس ، وتمييز النعمة من الفتنة .
فأمّا نور الحكمة ؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل ، وكلّما كان
حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ .
وأما سوء الظن بالنفس ؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ
والعيوب .
وأما تمييز النّعمة من الفتنة ؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر ، مفتونٍ
بثناء الجهّال عليه ، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه ! [35] .
حكى الذهبي عن المرّوذي قال : قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) : قدم
رجلٌ من طرسوس فقال : كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم
بالدعاء لأبي عبد الله ، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله . وقد رُمي عنه
بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته [36] فذهب برأسه والدّرقة ! ! قال :
فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال : ليته لا يكون استدراجاً) [37].
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم .
________________________
(1) ذم الهوى لابن الجوزي (40) .
(2) أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم ، 8/ 3317] .
(3) مدارج السالكين ، 1/187 .
(4) التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97) .
(5) الزهد للإمام أحمد (196) .
(6) إغاثة اللهفان لابن القيم (79) .
(7) التربية الذاتية (98) .
( إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ، 4/587 .
(9) في ظلال القرآن ، لسيد قطب ، 6/3531 .
(10) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(11) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(12) الزهد للإمام أحمد (177) ، ومدارج السالكين 1/187 .
(13) حلية الأولياء لأبي نعيم ، 2/157 .
(14) الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501) .
(15) إغاثة اللهفان ، (82) .
(16) الإحياء ، 4/118 .
(17) قال في القاموس في مادة (طلع) : نفس طُلَعة : تكثر التطلّع إلى الشيء .
(18) حلية الأولياء 2/144 ، ذم الهوى لابن الجوزي (41) .
(19) الإحياء ، 4/588 .
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين ، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف) .
(21) إغاثة اللهفان (81) .
(22) مدارج السالكين 1/188 .
(23) الزهد للإمام أحمد (179) .
(24) حلية الأولياء 2/157 ، وذم الهوى (40) .
(25) الإحياء ، 4/605 .
(26) الزهد للإمام أحمد (171) .
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي ، 171 .
(28) الزهد للإمام أحمد ، 501 .
(29) الزهد للإمام أحمد ، 336 ، وذم الهوى ، 41 .
(30) الإحياء ، 4/589 .
(31) الإحياء ، 4/589 .
(32) حلية الأولياء ، 3/115 ، وذم الهوى ، 42 .
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام - ، وهو صيام يوم وإفطار يوم - البيان - .
(34) الإحياء ، 4/591 .
(35) مدارج السالكين ، 1/188 (بتصرّف) .
(36) الدّرَقَة : التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط ، 1/281) .
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210) .
موقع طريق الدعوة