لقد فُرض على المسلمين الصيام،
والله عزّ وجلّ فرض الصيام بصيغةٍ تُهوّن الصعاب حتّى يُحفِّزُنا على
الاجتهاد في هذه العبادة فقال: ''كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ''، لكن مع ذلك نجد الكثيرين قد وهنت عزيمتهم أمام هذه العبادة
الّتي تتطلّب الصبر والمجاهدة، ونجدهم قد وقفوا في نصف الطريق يتلاومون،
فتارة يتحجّجون بالحر، وتارة بأمور أخرى لا داعي لذكرها، وهنا نقف لنراجع
الآية، ألَم يمر على مَن سبقنا مثل ما مرّ بنا؟ لا شك أنّهم كابدوا ما هو
أشدّ، فالتّطور الحضاري قد أزاح عنّا الكثير ممّا كابده الأولون، فوسائل
الرفاهية الّتي أتيحَت لنا لم يكونوا قد توفّرت لديهم، ومع ذلك فقد كانوا
أكثر منّا عبادة لله عزّ وجلّ، وكانوا أحرص منّا على طاعة الله تعالى، فهل
من مُقتدٍ بهم؟ هل من مشمّر للنُّزول إلى جوارهم في جنّات ربّ العالمين؟
ولرفع الهمّة وتقوية الإرادة على هذه العبادة نعرض في هذه المقالة ما أشرق
من أحوال بعض أعيان المسلمين، ونذكر ما سطّره التاريخ بماء من ذهب عن عبادة
السّلف والصّالحين، حتّى نُهيّج الحماسة في قلوبنا تجاه طاعة الله عزّ
وجلّ، عسى أن ننتفع من أخبارهم. روَت كتب التاريخ عن عمر الفاروق، المفارق
للتّنعم والتّرفيه، المعانق لما كُلّف من التّشمّر والتّوجيه، الّذي قال
عنه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ''لم أر عبقريًا يفري فريّه'' أنّه كان
يصوم حتّى اخضر جسده، ويقوم ولا ينام حتّى غارت عيناه، قال عنه نجله عبد
الله: ما مات عمر حتّى سرد الصوم.
وأمّا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، أمير البررة وقتيل الفجرة،
قال أبو نعيمَ عنه: حظّه من النّهار الجود والصيام، ومن الليل السجود
والقيام، مُبشّر بالبلوى، ومُنعّم بالنّجوى. وعن الزبير بن عبد الله عن
جَدةٍ يقال لها هَيْمةَ قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلاّ هجعة
من أوله.
وأبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه، زيد بن سهل، أحد أعيان الصحابة البدريين،
وأحد النقباء الإثنى عشر ليلة العقبة، قال عنه صلّى الله عليه وسلّم:
''لصوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من ألف رجل''، قال عنه أنس بن مالك: كان أبو
طلحة لا يصوم على عهد رسول الله من أجل الغزو، فلمّا قُبِض النّبيّ صلّى
الله عليه وسلّم لم أره يُفطر إلاّ يوم أضحى أو يوم فطر.
وهذا ذكرٌ عن صوم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، الصديقة بنت
الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب وأليفة القريب سيّد المرسلين
محمّدًا الخطيب، المبرّأة من العيوب، المعرّاة من ارتياب القلوب، قال عبد
الرحمن بن القاسم أنّ عائشة كانت تصوم الدهر، وعن القاسم أنّها كانت لا
تفطر إلاّ يوم أضحى أو فطر، والمعنى أنّها كانت تصوم غير الأيام المنهي
عنها شرعًا: كالعيدين وأيّام التشريق وأيّام عادتها وغيرها.