فازارلي فيكتور: مبتكر الحركة البصرية اللونية
كتبهابوزيدي عبد القادر : عزوز.بن ذهيبة: سنوسي محمد: بلغول محمد ، في 29 سبتمبر 2007 الساعة: 21:39 م
ابتكر في مجال الفن المعماري أسلوبا جماليا جديدا يتوازى مع ابتكاراته اللونية في مجال الرسم والزخرفة، وجمع هذا وذاك في إطار مذهب إبداعي مستحدث سماه "الفن الحركي" وهو فن يعتمد في بعض خصائصه على الخداع البصري، باستخدام الوان لامعه زتشكيلات لا يراها المرء في البيئة الطبيعية. فيخيل للمشتهد أن تلك الإبداعات والأعمال الفنية والمعمارية تنبض بالحياة، وتتحرك، وتتموج. وفي سنوات السبعينات والثمانيات انتشرت في باريس وغيرها من المدن الفرنسية وخارج فرنسا نحوالف بناية تحمل على واجاتها أو بجوانبها تصميمات زخرفية ولونية أنيقة دقيقة من صنع هذا الفنان المجري الأصل : "فازارلي" يقول:" يجب أن يندمج الفن الجمالي في البناء المعماري. لم يَعُد الفنان قادرا اليوم على حاكاة الطبيعية وجمالياتها أو التوافق العملي معها، بعد أن أعجزته عن ذلك حضارة المدن السرطانية المتضخمة وشبكات الطُرق السريعة. فأصبح محتما أن يبحث ويخترع محسنات مبهرة تَوَقَف العالم المعاصر عن إمداد المرء وإشباعه بها".
إن فازارلي فنان كبير رائد في فن لتشكيل أكثر منه في فن التصوير (الرسم). وهو يسمى أعماله وتصميماته المتعلقة بالفن المعماري: "التوافقات" أو التكاملات"، "المُدمَجات". فهي ليست أعمالا زخرفية (ديكورية) تزيينية مُضافة أو ثانوية، وغنما هي أعمال أساسية جمالية تغير المنظر المعماري (خارجيا وداخليا) كُلية. وقد بدأ في تنفيذ هذه الرؤية الجديدة عمليا في أوائل الخمسينيات، وأطلق عليها صحافي أمريكي تعبيرا صار شائعا هو "أُوب-آرت : Op Art"، أو الفن البصري Optique Art. إنه أسلوب فني حمالي أراد به مبتكرُه أن يصطنع منه توازنا، وتوافقا، وانسجاما (هارمونية) يَسُر العين، ويستثير الخيال، ويَصرف الذهن عن مظاهر كثيرة للقُبح والاضطراب في مُدن حديثة وأحياء شوهَها زعم خاطئ بالتقدم والتحضُر.
إن الطبيعة التي أبدعها الخالق سبحانه وتعالى تقدم لنا طواعية وعلانية الجمال الفطري في كل شئ من مكوناتها وعناصرها. فلماذا إذن نحاول تكراره وتشويهي؟ سؤال يطرحه فازارلي، ثم أجاب :" أولى بنا أن نستولد التشكيل الملائم الصحيح الذي هو من مبتكرات الإنسان بدلا من محاكاة الطبيعة ومناظرها المكتملة إبداعا وجمالا وجاذبية". ولهذا يفضل فازارلي ان يُسميه الناس فنانا "تشكيليا" وليس رساما مصورا. إنه لا يتحدى الطبيعة، وانما يقاوم بتشكيلاته ويتصدى يخطوطه وألوانه لأولئك الذين فرضوا ويفرضون أحيانا على البيئة اعمالا تتسم بالمسخ والتشويه المروع. إن المدينة الحديثة وكذلك المدينة المعاصرة يمكن أن تكون حقا جميلة، متناسقة، وملائمة للمعيشة الهانئة، حيث يتضافر الجمال مع الحسن في التصميم والإبداع، ثم يندمجان معا في الحياة اليومية عن طريق الذوق والحب.
وهو يؤكد دائما ويوضح مقصده بقوله:" إثبات أنه من المستطاع بسهولة أن تصبح كل المنشآت المعمارية في العالم كله، ضخمه أو خاصه أو شعبية، بنايات "إنسانية"، إذا ما اندمج في إنشائها العنصر الجمالي بحساسية وإتقان وذوق".
• بداية دخوله في عالم الفن كانت أحوال المجر الاقتصادية ضعيفة، فكان على فيكتور أن يبحث عن عمل يكتسب منه، وعلم يؤمن مستقبله. فقضى سنوات متعثرا في دراسة الطب، ثم التحق بمختبر للعقاقير والصيدلية، فعُهِد إليه بكتابة البحوث والتقارير. وتشاء المصادفة السعيدة أن يحتاج المختبر ذات يوم إلى تصميم إعلان، وسمع فيكتور بتلك الرغبة، فأسرع من تلقاء نفسه برسم الإعلان، فأدهش الجميع بجماله وحسن ذوقه، فطلبوا منه بعد ذلك غيره ثم أكثروا. وهكذا دخل فيكتور فازارلي عالم الإعلان والدعاية المربح، وغاص منقِبا في أعناقه لمدة عشرين سنة أو تزيد. فصار عَلَما في هذا المجال واكتسب خبرة عظيمة وشهرة في بودابست (عاصمة الجر). ثم رحل إلى باريس سنة 1930 وأقام بها، فسحره بيكاسو وماتيس بأعمالهما الفنية، والتقطته وكالة "هافاس" الإعلامية للأنباء ثم وكالة دراجير التي أحسنت استقباله وزودته بطلبات لتصميمات إعلانية كثيرة متلاحقة. لفأصبحت المعيشة رغدة، والحياة مترفة، والمال بالمكيال. فاقتنى السيارات الفارهة، والمكشوفة الفاخرة، وتنقل بين مجالس السمر في المقاهي والمنتديات الرفيعة المستوى، خاصة في حي "مونبارناس" ملتقى كبار وصعاليك الأدباء والفنانين، وكان لديه من الوقت متسع لدراسة سر فن الجرافيك.
امتدت هذه الحياة الهنيئة المثمرة إلى سنة 1945، لكنها لم تخل من بعض المتاعب والمنغصات، وبعد سنين عديدة التقى بدنيس رنيه التي ارتبط بها، واتفقا معا على أداء قفزة جريئة بعد أن عَلِمت أنه لم يبع في حياته سوى لوحة واحدة من رسمه كفنان مصور، اتفقا على أن تفتح دنيس رينه متجرا لبيع لوحاته (ورسوم آخرين)، وأن يترك هو نهائيا مجال الإعلان والدعاية ليتفرغ للرسم فقط. واتجه في البداية إلى رسم اللوحات السوريالية، ثم سئم من هذا الأسلوب فتحول إلى الفن التجريدي، ومالبث أن مله فتركه.
كان فازارلي يحب لعب الورق الكوتشينة)، وكانت رسوم وعلامات الورق تجذب انتباهه وتستثير خياله، فيتَقِد، ويتوهج. وكذلك كان يشعر بنشوة غامرة عند جلوسه بالساعات أمام لعبة البلياردو، يتأمل بمعق وتركيز شديد التشكيلات اللونية المتتابعة التي تتولد من الكرتين البيضاءتين مع الكرة الحمراء فوق الأرضية الخضراء.
هذه التأملات المببة العارضة، قادته بلاشك إلى أن يصبح أول من استخدم في الرسم ما سُمِي في البداية "الخداع البصري"، ولم تكن سوى رسوم للتسلية كألعاب الأطفال، ثم تحولت إلى تيار مستحدث صنع مدرسة فنية جديدة " للفن الحركي". وفي هذه المدرسة ولاينتج الفنان سوى لوحة واحدة من تشكيل ملون ولاتتكرر. فكل لوحة إذن إبداع فريد، وتحفة نادرة. وسرعان ما انتشر هذا الأسلوب الفني الجديد، أما ما يقتنيه الأثرياء وجامعو التحف الفنية النادرة فهو حبيس الدُور والقصور، وربما لسنوات وعقود طويلة قادمة. فلما أدرك فازارلي هذا الأمر الواقع ولاحلية له في تغييره، فَكر في تحويل المدن، أو على الأقل بعض الأحياء والمدن الصغيرة، إلى "متاحف مكشوفة"، أو إلى جَعلها هي ذاتها "تحفه فنية" بأكملها. وبدلا من استعمال ألوان الرسم الزيتية أو المائية المعروفة، استخدم عناصر لونية معينة ومختارة بدقة وفق تصميم فني مُسبق، لتضاف إلى وحدات الإنشاء سابقة التجهيز، وفي موقع البناء توضع هذه الوحدات على الأرض، وتضاف إليها اللمسات أو التكوينات الإضافية قبل تركيبها في أماكنها. وبذلك تكُون واجهة البناية، أو البايات المتجاورة في الشارع كله كلوحة فنية جمالية تَسُرُ من يرى.
ولا يأتي هذا العمل عشوائيا، وإنما يضع التصميم أولا فوق لوحة أو مجموعة من اللوحات المتكاملة محسوبا بدقة الملليمتر وعلىنهج برنامج تفصيلي محدد في كل جزئياته، ثم يتولى مساعدوه مهمة التنفيذ تحت إشرافة، ويصبح العمل الفني مندمجا في العمل العماري والإنشائي. ويقوم فازارلي بإختيار ما يوافق البناء أو الشارع أو الحيمن أشكال ووحدات هندسية معروفة كأساس للتصميم الفني : المربع الذي كان القدماء يرمزون به إلى الجنة الرضية، أو يختار المثلث بتقسيم المربع، ثم يقطعه في تكوينات متنوعة على هيئة شبه منحرف أو متوازي أضلاع.
ويرتكز أسلوبه البحثي في الاختيار والنتقاء (التكنيك) على أبجدية تشكيلية لونية، تتكون من : خمس عشرة وحدة ثنائية شكلية تُوَزع تلقائيا على ورق من عشرين لون صريح حاد أو فاقع وست مجموعات لونية متدرجة: أحمر| ازرق | اخضر | اصفر | رمادي | بنفسجي. وكل من هذه المجموعات تتدرج لونيا من الباهت جدا إلى القاتم جدا. وهذه العناصر اللونية الأساسية قابلة للتبديل. وهكذا فإن خمس عشرة "تشكيلية ثنائية أساسية" مع تسعين درجة لونية داخلية وأكثر منها عددا بين الوحدات، تُعطي عمليا مالا يُحصى من التكوينات والتراكيب. وفضلا عن ذلك، فإنه طِبقا لكثافة اللون الواحد أو تركيزه في الشكل المصَمَم، يمكن أن يكون ناصعا او باهتا او قاتما في آن، وأن يكون أيضا ساخنا أو باردا (زاعقا أو منطفئا)، إيجابيا أو سلبيا في تصميم آخر. ويؤدي العامل النفسي في التكوين والتلوين دورا على جانب كبير من الأهمية. وبهذا افلح فازارلي في ابتكار الحركة اللونية المتوهمة. لكنه ظل على الدوام تلميذا مخلصا لمدرسة بوهوس “Bauhaus” الألمانية للرسم والزخرفة والعمارة، التي اسهمت بنصب كبير في الإطار المعماري للمدينة الحديثة. وهو يُرجع إلى هذه المدرسة فضل الإيحاء إليه بفكرة أو رؤية "المدينة المتعددة الألوان". وقد حاول تنفيذها بالفعل في بلجيكا التي طلبت منه إنشائها في عمائر سكنية من ستة طوايق. فلما شرع في التنفيذ اعترض القصر الملكي المواجه للمنطقة التي اختيرت لإقامة المشروع، بحُجة الخوف على تشويه البيئة المحيطة بالقصر ، فتوقف التنفيذ.